الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وهذا بناء على القول بالأجلين، وهو مذهب المعتزلة.وتقدم الكلام في طرف من هذا في سورة الأعراف في قوله: {ولكل أمة أجل} وقيل هنا: ويؤخركم إلى أجل مسمى قبل الموت فلا يعاجلكم بالعذاب، إن أنتم إلا بشر مثلنا لا فضل بيننا وبينكم، ولا فضل لكم علينا، فلم تخصون بالنبوة دوننا؟ قال الزمخشري: ولو أرسل الله إلى البشر رسلًا لجعلهم من جنس أفضل منهم وهم الملائكة انتهى.وهذا على مذهب المعتزلة في تفضيل الملائكة على من سواهم.وقال ابن عطية: في قولهم استبعاد بعثة البشر.وقال بعض الناس: بل أرادوا إحالته، وذهبوا مذهب البراهمة، أو من يقول من الفلاسفة أن الأجناس لا يقع فيها هذا القياس.فظاهر كلامهم لا يقتضي أنهم أغمضوا هذا الإغماض، ويدل على ما ذكرت أنهم طلبوا منهم حجة، ويحتمل أن طلبهم منهم السلطان إنما هو على جهة التعجيز أي: بعثتكم محال، وإلا فأتوا بسلطان مبين أي: إنكم لا تفعلون ذلك أبدًا، فتقوى بهذا الاحتمال منحاهم إلى مذهب الفلاسفة انتهى.والذي يظهر أنّ طلبهم السلطان المبين وقد أتتهم الرسل بالبينات إنما هو على سبيل التعنت والاقتراح، وإلا فما أتوا به من الدلائل والآيات كاف لمن استبصر، ولكنهم قلدوا آباءهم فيما كانوا عليه من الضلال.ألا ترى إلى أنهم لما ذكروا أنهم مماثلوهم قالوا: تريدون أنْ تصدونا عما كان يعبد آباؤنا أي: ليس مقصودكم إلا أن نكون لكم تبعًا، ونترك ما نشأنا عليه من دين آبائنا.وقرأ طلحة: {إن تصدونا} بتشديد النون، جعل إن هي المخففة من الثقيلة، وقدر فصلًا بينها وبين الفعل، وكان الأصل أنه تصدوننا، فأدغم نون الرفع في الضمير، والأولى أن تكون أن الثنائية التي تنصب المضارع، لكنه هنا لم يعملها بل ألغاها، كما ألغاها من قرأ: {لمن أراد أن يتم الرضاعة} برفع يتم حملًا على ما المصدرية أختها.{قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}سلموا لهم في أنهم يماثلونهم في البشرية وحدها، وأما ما سوى ذلك من الأوصاف التي اختصوا بها؛ فلم يكونوا مثلهم، ولم يذكروا ما هم عليه من الوصف الذي تميزوا به تواضعًا منهم، ونسبة ذلك إلى الله.ولم يصرحوا بمنّ الله عليهم وحدهم، ولكن أبرزوا ذلك في عموم من يشاء من عباده.والمعنى: يمن بالنبوة على من يشاء تنبئته.ومعنى بإذن الله: بتسويغه وإرادته، أي الآية التي اقترحتموها ليس لنا الإتيان بها، ولا هي في استطاعتنا، ولذلك كان التركيب: وما كان لنا، وإنما ذلك أمر متعلق بالمشيئة.فليتوكل أمر منهم للمؤمنين بالتوكل، وقصدوا به أنفسهم قصدًا أوليًا وأمروها به كأنهم قالوا: ومن حقنا أن نتوكل على الله في الصبر على معاندتكم ومعاداتكم، وما يجري علينا منكم.ألا ترى إلى قولهم وما لنا أن لا نتوكل على الله ومعناه: وأي عذر لنا في أنْ لا نتوكل على الله وقد هدانا، فعل بنا ما يوجب توكلنا عليه، وهو التوفيق لهداية كل واحد منا سبيله الذي يوجب عليه سلوكه في الدين.والأمر الأول وهو قوله: {فليتوكل المؤمنون} لاستحداث التوكل، والثاني للثبات على ما استحدثوا من توكيلهم.ولنصبرن جواب قسم، ويدل على سبق ما يجب فيه الصبر وهو الأذى.وما مصدرية، وجوزوا أن يكون بمعنى الذي.والضمير محذوف أي: ما آذيتموناه وكان أصله به، فهل حذف به أو الباء فوصل الفعل إلى الضمير قولان؟ وقرأ الحسن: بكسر لام الأمر في {ليتوكل} وهو الأصل، وأو لأحد الأمرين. اهـ.
.قال أبو السعود: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ}استئنافٌ مبنىٌّ على سؤال ينساق إليه المقال كأنه قيل: فماذا قالت لهم رسلُهم؟ فأجيب بأنهم قالوا منكرِين عليهم ومتعجّبين من مقالتهم الحمقاءِ: {أَفِى الله شَكٌّ} بإدخال الهمزةِ على الظرف للإيذان بأن مدارَ الإنكار ليس نفسَ الشك بل وقوعُه فيما لا يكادُ يتوهّم فيه الشكّ أصلًا، منقادين عن تطبيق الجوابِ على كلام الكفرةِ بأن يقولوا: أأنتم في شك مريب من الله تعالى؟ مبالغةً في تنزيه ساحةِ السّبحان عن شائبة الشك وتسجيلًا عليهم بسخافة العقول، أي أفي شأنه سبحانه من وجوده ووحدتِه ووجوبِ الإيمان به وحده شك وهو أظهرُ من كل ظاهر وأجلى من كل جلي حتى تكونوا من قِبله في شك مريب، وحيث كان مقصِدُهم الأقصى الدعوةَ إلى الإيمان والتوحيد وكان إظهارُ البينات وسيلةً إلى ذلك لم يتعرضوا للجواب عن قول الكفرةِ: إنا كفرنا بما أرسلتم به، واقتصروا علي بيان ما هو الغايةُ القصوى ثم عقّبوا ذلك الإنكارَ بما يوجبه من الشواهد الدالّةِ على انتفاء المنكَر فقالوا: {فَاطِرَ السموات والأرض} أي مُبدعُهما وما فيها من المصنوعات على نظام أنيقٍ شاهد بتحقق ما أنتم منه في شك، وهو صفةٌ للاسم الجليل أو بدلٌ منه وشكٌّ مرتفعٌ بالظرف لاعتماده على الاستفهام، وجعلُه مبتدأً على أن الظرف خبرُه يُفضي إلى الفصل بين الموصوف والصفةِ بالأجنبي، أعني المبتدأَ والفاعلَ ليس بأجنبي مِنْ رافعه وقد جوز ذلك أيضًا: {يَدْعُوكُمْ} إلى الإيمان بإرساله إيانا لا أنا ندعوكم إليه من تلقاء أنفسِنا كما يوهمه قولُكم مما تدعوننا إليه: {لِيَغْفِرَ لَكُمْ} بسببه أو يدعوكم لأجل المغفرة، كقولك: دعوتُه ليأكلَ معي: {مّن ذُنُوبِكُمْ} أي بعضَها وهو ما عدا المظالمَ مما بينهم وبينه تعالى فإن الإسلام يجُبّه، قيل: هكذا وقع في جميع القرآنِ في وعد الكفرةِ دون وعد المؤمنين تفرقةً بين الوعدين، ولعل ذلك لما أن المغفرة حيث جاءت في خطاب الكفرةِ مرتبةً على محض الإيمان وفي شأن المؤمنين مشفوعةً بالطاعة والتجنب عن المعاصي ونحو ذلك فيتناول الخروجَ من المظالم، وقيل: المعنى ليغفرَ لكم بدلًا من ذنوبكم: {وَيُؤَخّرْكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} إلى وقت سماه الله تعالى وجعله منتهى أعمارِكم على تقدير الإيمان.{قَالُواْ} استئناف كما سبق: {إِنْ أَنتُمْ} أي ما أنتم: {إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا} من غير فضل يؤهّلكم لما تدّعونه من النبوة: {تُرِيدُونَ} صفةٌ ثانية لبشرٌ حملًا على المعنى كقوله تعالى: {أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} أو كلامٌ مستأنفٌ أي تريدون بما تتصدَّوْن له من الدعوة والأرشاد: {أَن تَصُدُّونَا} بتخصيص العبادةِ بالله سبحانه: {عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا} أي عن عبادة ما استمر آباؤُنا على عبادته من غير شيءٍ يوجبه وإلا: {فَأْتُونَا} أي وإن لم يكن الأمرُ كما قلنا بل كنتم رسلًا من جهة الله تعالى كما تدّعونه فأتونا: {بسلطان مُّبِينٍ} يدل على فضلكم واستحقاقِكم لتلك الرتبة، أو على صحة ما تدّعونه من النبوة حتى نترُك ما لم نزل نعبُده أبًا عن جد. ولقد كانوا آتَوهم من الآيات الظاهرةِ والبينات الباهرة ما تخرّ له صُمّ الجبال، ولكنهم إنما يقولون من العظائم مكابرةً وعِنادًا وإراءةً لمن وراءهم أن ذلك ليس من جنس ما ينطلق عليه السلطانُ المبين.{قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ}مجاراةً معهم في أول مقالتِهم وإنما قيل لهم لاختصاص الكلامِ بهم حيث أريد إلزامُهم بخلاف ما سلف من إنكار وقوعِ الشكِّ في الله سبحانه فإن ذلك عامٌ وإن اختص بهم ما يعقُبه: {إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ} كما تقولون: {ولكن الله يَمُنُّ} بالنبوة: {على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} يعنون أن ذلك عطيةٌ من الله تعالى يعطيها من يشاء من عباده بمحض الفضلِ والامتنان من غير داعيةٍ توجبه، قالوه تواضعًا وهضمًا للنفس أو ما نحن من الملائكة بل نحن بشرٌ مثلُكم في الصورة أو في الدخول تحت الجنس، ولكن الله يمن بالفضائل والكمالاتِ والاستعدادات على من يشاء المنَّ بها وما يشاء ذلك إلا لعلمه باستحقاقه لها، وتلك الفضائلُ والكمالاتُ والاستعدادات هي التي يدور عليها فلكُ الاصطفاء للنبوة: {وَمَا كَانَ} وما صح وما استقام: {لَنَا أَن نَّأْتِيَكُمْ بسلطان} أي بحجة من الحجج فضلًا عن السلطان المبين بشيء من الأشياء وسببٍ من الأسباب: {إِلاَّ بِإِذْنِ الله} فإنه أمرٌ يتعلق بمشيئته تعالى إن شاء كان وإلا فلا: {وَعَلَى الله} وحده دون ما عداه مطلقًا: {فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} أمرٌ منهم للمؤمنين بالتوكل ومقصودُهم حملُ أنفسِهم عليه آثرَ ذي أثيرٍ، ألا يُرى إلى قوله عز وجل: {وَمَا لَنَا} أيُّ عذرٍ لنا: {أَن لا نَتَوَكَّلَ عَلَى الله} أي في أن لا نتوكل عليه، ولإظهار النشاطِ بالتوكل عليه والاستلذاذِ بذكر اسمِه تعالى وتعليلِ التوكل: {وَقَدْ هَدَانَا} أي والحالُ أنه قد فعل بنا ما يوجبه ويستدعيه حيث هدانا: {سُبُلَنَا} أي أرشد كلًا منا سبيله ومنهاجَه الذي شرَع له وأوجب عليه سلوكهَ في الدين، وحيث كانت أذيةُ الكفار مما يوجب القلقَ والاضطرابَ القادح في التوكل، قالوا على سبيل التوكيد القسميِّ مظهرين لكمال العزيمة: {وَلَنَصْبِرَنَّ على مَا اذَيْتُمُونَا} بالعِناد واقتراحِ الآيات وغير ذلك مما لا خير فيه {وَعَلَى الله} خاصة: {فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون} فليثبُت المتوكلون على ما أحدثوه من التوكل، والمرادُ هو المرادُ مما سبق من إيجاب التوكلِ على أنفسهم، والمرادُ بالمتوكّلين المؤمنون، والتعبيرُ عنهم بذلك لسبق ذكرِ اتصافِهم به ويجوز أن يُرادَ وعليه فليتوكل مَنْ توكل دون غيره. اهـ..قال الألوسي: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ}استئناف مبني على سؤال ينساق إليه المقام كأنه قيل: فإذا قالت لهم رسلهم حين قابلوهم بما قابلوهم به؟ فأجيب بأنهم قالوا منكرين عليهم ومتعجبين من مقالتهم الحمقاء: {أَفِى الله شَكٌّ} بتقديم الظرف وإدخال الهمزة عليه للإيذان بأن مدار الإنكار ليس نفس الشك بل وقوعه فيمن لا يكاد يتوهم فيه الشك أصلًا، ولولا هذا القصد لجاز تقديم المبتدأ، والقول بأنه ليس كذلك خطأ لأن وقوع النكرة بعد الاستفهام مسوغ للابتداء بها وهو مما لا شك فيه، وكون ذلك المؤخر مبتدأ غير متعين بل الأرجح كونه فاعلًا بالظرف المعتمد على الاستفهام كما ستعلم إن شاء الله تعالى، والكلام على تقدير مضاف على ما قيل أي أفي وحدانية الله تعالى شك، بناء على أن المرسل إليهم لم يكونوا دهرية منكرين للصانع بل كانوا عبدة أصنام، وقيل: يقدر في شأن الله ليعم الوجود والوحدة لأن فيهم دهرية ومشركين.وقيل: يقدر حسب المخاطبين وتقدير الشأن مطلقًا ذو شأن، وفي عدم تطبيق الجواب على كلام الكفرة بأن يقولوا: أأنتم في شك مريب من الله تعالى مبالغة في تنزيه ساحة الجلال عن شائبة الشك وتسجيل عليهم بسخافة العقول أي أفي شأنه تعالى شأنه من وجوده ووحدته ووجوب الإيمان به وحده شك ما وهو أظهر من كل ظاهر وأجلى من كل جلى حتى تكونوا من قبله سبحانه في شك عظيم مريب، وحيث كان مقصدهم الأقصى الدعوة إلى الإيمان والتوحيد وكان إظهار البينات وسيلة إلى ذلك لم يتعرضوا للجواب عن قولهم: {إِنَّا كَفَرْنَا} [إبراهيم: 9] إلى آخره واقتصروا على بيان ما هو الغاية القصوى، وقد يقال: إنهم عليهم السلام قد اقتصروا على انكار ما ذكر لأنه يعلم منه إنكار وقوع الجزم بالكفر به سبحانه من باب أولى.{فَاطِرَ السماوات والأرض} أي مبدعهما وما فيهما من المصنوعات على نظام أنيق شاهد بتحقق ما أنتم في شك منه.وفي الآية كما قيل إشارة إلى دليل التمانع.وجر: {فَاطِرَ} على أنه بدل من الاسم الجليل أو صفة له.وحيث كان: {شَكٌّ} فاعلًا بالظرف وهو كالجزء من عامله لا يعد أجنبيًا فليس هناك فصل بين التابع والمتبوع بأجنبي وبهذا رجحت الفاعلية على المبتدئية لأن المبتدأ ليس كذلك.نعم إلى الابتدائية ذهب أبو حيان وقال: إنه لا يضر الفصل بين الموصوف وصفته بمثل هذا المبتدأ فيجوز أن تقول: في الدار زيد الحسنة وإن كان أصل التركيب في الدار الحسنة زيد.وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما: {فَاطِرَ} نصبًا على المدح.ثم إنه بعد أن أشير إلى الدليل الدال على تحقق ما هم في شك منه نبه على عظم كرمه ورحمته تعالى فقيل: {يَدْعُوكُمْ} أي إلى الإيمان بإرساله ايانا لا أنا ندعوكم إليه من تلقاء أنفسنا كما يوهم قولكم {مّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ} [إبراهيم: 9]: {لِيَغْفِرَ لَكُمْ} بسببه، فالمدعو إليه غير المغفرة.وتقدير الإيمان لقرينة ما سبق.ويحتمل أن يكون المدعو إليه المغفرة لا لأن اللام بمعنى إلى فإنه من ضيق العطن بل لأن معنى الاختصاص ومعنى الانتهاء كلاهما واقعان في حاق الموقع فكأنه قيل: يدعوكم إلى المغفرة لأجلها لا لغرض آخر.وحقيقته ان الأغراض غايات مقصودة تفيد معنى الانتهاء وزيادة قاله: في الكشف، وهذا نظير قوله:
|